سورة الحج - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)} [الحج: 22/ 15- 16].
أبان الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أمرين مهمين: وهما نصرته رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في الدنيا والآخرة، لييأس المجادلون الانهزاميون العابدون الله على حرف (أي شك وضعف في العبادة) الظانون أن الله تعالى لن ينصر رسوله.
والأمر الثاني: إنزاله القرآن آيات واضحات ترشد إلى الحق والصواب.
والمعنى: يقول الله تعالى: نحن أمرنا رسولنا والمؤمنين بالصبر على الدعوة إلى الله، وانتظار وعدنا، فمن ظن غير ذلك، وأننا لن ننصر محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى السماء، أي بحبل إلى سقف بيته، وليختنق به، ولينظر وليتأمل في نفسه: هل يذهب بذلك غيظه من نصرة رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم؟ كلا، وهذا الكلام على جهة المثل السائر، وهو قولهم: «دونك الحبل فاختنق» يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه. وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع حياته. وسمي فعله وهو نصب المشنقة «كيدا» استهزاء، لأنه لم يكد به محسوده، وإنما كاد به نفسه، ولم يقدر على غيره.
والمراد من هذا المثل المتحدي به: أن الله تعالى ناصر بالتأكيد دينه وقرآنه ورسوله، لا محالة من ذلك، فليفعل أهل الغيظ ما شاؤوا.
قال ابن عطية رحمه الله: أبين وجوه هذه الآية أن تكون مثلا، ويكون النصر هو النصر المعروف، والقطع: الاختناق، والسماء: الارتفاع في الهواء بسقف أو شجر أو نحوه.
ثم أردف الله تعالى بيان ذلك المثل ببيان آخر، حول القرآن العظيم، والمعنى:
وكما وعدنا رسولنا بالنصر، وأمرناه بالصبر، كذلك أنزلنا القرآن آية بيّنة واضحة، لمن نظر واهتدى، يتعظ بها المعتبر، ويتأمل بها الواعي المتعظ، لا ليقترح معها شيء آخر، ويستعجل القدر، فإن إنزال كل شيء بحكمة وميعاد، وفي الوقت المناسب بحسب مراد الله، لا بحسب مراد البشر، والضمير في {أَنْزَلْناهُ} عائد على القرآن، وجاءت هذه الضمائر هكذا، وإن لم يتقدم لها ذكر، لشهرة المشار إليه، نحو قوله تعالى: {حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} [ص: 38/ 32]. والأمر أن الله يهدي من يريد، أو لأن الله يهدي بالقرآن ويوفق الذين يعلم أنهم يؤمنون، ومستعدون للإيمان بما أنزل، ويريد الله هدايتهم. وهداية الله تبارك وتعالى: هي خلقه الرّشاد والإيمان في نفس الإنسان.
حسمت هاتان الآيتان من أمرين أحدهما شخصي متعلق بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم، والآخر عام متعلق بطبيعة بيان القرآن، وهداية الله البشر. إن أمر انتصار النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على مخالفيه حقيقة ثابتة في مضمار العقيدة، ومصداقية التاريخ، وقد تم ذلك بنحو واضح، إلا أن مصائر الأمور تتعلق بالحكمة الإلهية والعلم الرباني، فقد يتأخر النصر، لترك الفرصة أمام الجناة، لتصحو ضمائرهم، وتتفتح عقولهم، وتتدبر أمر الوحي الإلهي.
وإن بيان القرآن الكريم القطعي الذي لا غبار عليه ولا شك في دلالاته وأخباره، ومهامه وغاياته، هو الذي خلّده وأبقاه أبد الدهر، وسيظل منارة الهدي الإلهي، ومفتاح صفحة الكون الذي تستضيء بهديه نفوس الحائرين، ولن تجد أقوم ولا أعدل، ولا أحكم ولا أصلح، ولا أفضل منه، وإن هداية الله وتوفيقه بالقرآن وغيره مستمرة، ومرتبطة بإرادة الله، وإرادة الله الهداية تقع في محلها حسبما يعلم الحق من كان أهلا للهداية وجديرا بها.
العدل الإلهي بين الفرق:
انقسمت الشعوب والأمم إزاء الهدي الرباني إلى فرق وأحزاب، وفئات وجماعات، بحسب أهوائهم ونزعاتهم واستعداداتهم، فمنهم أهل الإيمان بالنبي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وغيره من الأنبياء، ومنهم من لم يؤمن بالأنبياء جميعا، ومنهم من آمن ببعض الأنبياء دون البعض الآخر، والله تعالى عالم بكل هؤلاء، يفصل بينهم فصلا قائما على العدل يوم القيامة، والله قادر على كل شيء، يهدي من علم أنه أهل للهداية، ويعذب من يستحق العذاب، ومن هداه الله فلا مضل له، ومن يهنه ويعذبه فلا مكرم له، سبحانه وتعالى، يفعل ما يريد، قال الله تعالى واصفا أحوال الأمم ومبينا مصائرها:


{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)} [الحج: 22/ 17- 18].
أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن فعله العادل، بجميع الفرق الدينية المختلفة، من المؤمنين بالله ورسله، واليهود، والنصارى، والصابئين: (وهم فرقة بين اليهود والنصارى، أو قوم يعبدون الملائكة، ويستقبلون القبلة، ويوحدون الله، ويقرءون الزبور) والمجوس: وهم عبدة النار والشمس والقمر، والمشركين: وهم عبدة الأوثان، يعبدون مع الله إلها آخر. هؤلاء جميعا يحكم الله بينهم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ومن كفر به النار، فإن الله تعالى شهيد مطلع على جميع أعمالهم، حفيظ لأقوالهم وأفعالهم، عليم بسرائرهم، وما تنطوي عليه ضمائرهم.
وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي عالم به: خبر مناسب للفصل بين الفرق، وفصل الله تعالى بين هذه الفرق: هو بإدخال المؤمنين الجنة، والكافرين النار.
وهذا أمر هين سهل على الله تعالى، فإن الله قادر على كل شيء، بدليل أن الله يخضع ويسجد له كل شيء طوعا وكرها، وهذه آية إعلام بتسليم المخلوقات جميعها لله تعالى وخضوعها، وقد ذكر الله في الآية كل ما عبد الناس، وهناك في المخلوقات أعظم مما ذكر كالبحار والرياح والهواء، يسجد لله جميع من في السموات وهم الملائكة، وجميع من في الأرض، ممن عبد من الإنس (الناس) والجن، وتسجد لله الشمس والقمر والنجوم العلوية، وكانت حمير وهم قوم بلقيس تعبد الشمس، وكانت كنانة من العرب تعبد القمر، وكانت قريش تعبد الشّعرى، وكانت أسد تعبد عطارد، وكانت تميم تعبد الدّبران، وكانت لخم تعبد المشترى، وكانت طي تعبد الثّريا، وكانت ربيعة تعبد المرزم.
والأشجار والجبال والدواب كلها تسجد لله أيضا، وإن عبدها بعض الناس، فمن الجبال أصنام الحجارة، ومن الشجر: النار والخشب، ومن الدواب: البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه.
والسجود من هذه المخلوقات غير العاقلة: يراد به الخضوع والانقياد للأمر. وكثير من الناس حق له الثواب وهم من أطاع الله، وكثير منهم حق عليه العقاب: وهم من امتنع من طاعة الله وأبى واستكبر.
ومن يهن الله، فيشقيه ويضله لسوء فعله، وسوء استعداده للإيمان، فلا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، ولا يسعده أحد، لأن الأمر بيده تعالى، يوفق من يشاء، ويخذل من يريد، بمقتضى الحكمة الإلهية القائمة على العدل المطلق، والعلم الشامل بأحوال الخلائق، فلا شقاء لأحد من دون فعله السيّئ، وعتوه وتمرده، وخروجه عن جادة الطاعة والاستقامة، وإن الله يفعل ما يشاء في عباده من الإهانة والإكرام، والتعذيب والإنعام، حسبما سبق في علمه الأزلي، والناجي: من سجد لله وخضع وانقاد للأمر، والهالك من عتا وتكبر عن طاعة الله تعالى.
جزاء الكافرين والمؤمنين:
الناس مهما اختلفوا في العقائد، فإنهم في النهاية صنفان: مؤمنون وكفار، الأولون آمنوا بالله ربهم، واهتدوا بشرعه وملته، والآخرون جحدوا بالله، وكفروا بما أنزل على رسله، وتنكروا للشرع الإلهي، وكل من هذين الفريقين ينتظر مصيرا معينا بحسب عمله، وما أعظم الفرق بين الجزاءين، وهذا ما أبانته الآيات التالية:


{هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)} [الحج: 22/ 19- 24].
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: نزلت هذه الآية: {هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد ابن عتبة. أي الفريقين المتبارزين في بدء معركة بدر الكبرى، إنهم ستة: حمزة وعبيدة وعلي من جانب المسلمين، وعتبة وشيبة والوليد من جانب المشركين.
والآية في الواقع ليست مقصورة على هؤلاء الستة، وإنما الإشارة فيها إلى المؤمنين والكفار على العموم، فهما الخصمان المختصمان في دين الله وصفاته.
والمعنى: أن الإيمان وأهله، والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة، بالعداوة والجدال والحرب. والمراد بالخصمين: الطائفتان، أو الفريقان المتميزان:
فريق المؤمنين، وفريق الكافرين، تنازعوا في شأن ربهم وفي دينه، وكل منهم يعتقد أنه على الحق، وأن خصمه على الباطل.
فالذين كفروا بالله ربهم: مصيرهم واضح، قطّعت لهم ثياب من نار، أي تحيط بهم النار إحاطة شاملة، يصبّ على رؤوسهم الحميم، أي الماء البالغ أقصى درجات الغليان، فيذيب جميع ما في بطونهم من أحشاء، ويشوي جلودهم فيحرق الباطن والظاهر، وقوله سبحانه: {يُصْهَرُ} معناه: يذاب أو يعصر.
ولهم مقامع من حديد، أي لهم مضارب، تضرب بها رؤوسهم، فتنكشف أدمغتهم، فيصب الحميم حينئذ عليها. وكلما أرادوا الخروج أو الهروب من جهنم بسبب شدة العذاب والغم، أي الحزن الشديد، أعيدوا فيها كما كانوا، ويقال لهم:
ذوقوا العذاب المحرق، وهو عذاب النار الشديد، والمعنى: أنهم يهانون بالعذاب قولا وعملا، فإذا ارتفع لهب رفعهم، فيصلون إلى أبواب النار، فيريدون الخروج، فيضربون بالمقامع، وتردهم الزبانية.
ويعادل هؤلاء الفريق فريق أهل الإيمان بالله تعالى، ومصيرهم واضح أيضا، إن الله يدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات، أي الطاعات والقربات، ويتجنبون المنكرات، جنات عالية رفيعة، تجري الأنهار من تحت أشجارها وجوانبها وقصورها.
وحليتهم التي يلبسونها: أساور الذهب في أيديهم، وتزين هاماتهم ورؤوسهم باللؤلؤ: وهو في الدنيا ما يستخرج من جوف الصدف، والأشهر أنه اسم للجوهر، ويرتدون على أجسادهم الحرير الذي كان محرما لباسه على الرجال في الدنيا، في مقابلة ثياب أهل النار التي فصّلت لهم. روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال- فيما يرويه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه-: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة».
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تشبه أمور الآخرة أمور الدنيا، إلا في الأسماء فقط، وأما الصفات فمتباينة.
وأرشد أهل الجنة إلى القول الطيب: وهو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وما جرى معها من ذكر الله تبارك وتعالى وتسبيحه وتقديسه، وسائر كلام أهل الجنة من محاورة شيقة وحديث طيب، فإنها لا تسمع فيها لاغية.
وأرشد أهل الجنة أيضا إلى الصراط الحميد: وهو طريق الله تعالى الذي دعا عباده إليه، فهو طريق الحق والاستقامة، المحمود في نفسه أو عاقبته وهو الجنة.
فهل بعد هذه المقارنة بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين يبقى أدنى شك في ضرورة الحذر من أفعال الكافرين، والرغبة في أفعال المؤمنين؟!
المسجد الحرام ومكانته:
إن من نعم الله الكبرى على المسلمين اتخاذ الكعبة الشريفة قبلة ورمزا موحّدا لاتجاهات مسلمي العالم، لترتبط قلوبهم بإله واحد، وتتجه أنظارهم نحو رب واحد، ويعملون من خلال وحدة العقيدة على بناء وحدة السياسة والمنهاج، والعمل المشترك. فمن صدّ المؤمنين عن البيت الحرام. وحال دون العبادة فيه، ارتكب أعظم الظلم، وناله أفدح الإثم، لأنه قطع عنهم مهوى القلوب، وحجب مثوى أهل الإيمان عن ممارسة الشعائر والعبادات فيه، قال الله تعالى مبينا مكانة هذا البيت الحرام وأغراضه:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8